01 يناير . 7 دقائق قراءة . 516
يجب تنظيم طرق التعليم والتعلُّم من أجل تحقيق الأهداف والمحتويات. في التربية التقليدية السكونية التي ننتقدها، نجد كل مادة من مواد التعليم مستقلة عن المواد الأخرى وقائمة في ذاتها. لكن في التربية الحية، على عكس هذا، نجد المواد مترابطة: فالتاريخ، مثلاً، ضروري لكل الموضوعات، وعلى وجه الخصوص الأدب والعلوم الاجتماعية. وعبر مادة الأدب، يمكن إثارة اهتمام التلاميذ بالأخلاق والدين والاجتماع والعمران، كما يمكن تحريك مواهبهم الابداعية. لكن هذا لا يحصل إلا على أيدي معلمين ذوي ثقافة لائقة.
وإذا تناولنا بعض الموضوعات، كالتاريخ، لوَجدنا أن التلميذ يستطيع تحصيل العلم من قراءاته، أي من غير معلِّم. وإذ ينطبق هذا على كل المواد في مرحلة أو أخرى من مراحل الدراسة، لأنّ التعلُّم هو ما يفعله المتعلِّم أكثر مما يفعله المعلِّم، الذي يمكنه أن يدلّ المتعلم على الطريق من دون أن يقطعها عنه، إلا أن دَور المعلم محوَري في عملية التعلم. وهو ليس في التلقين، بل في التوجيه إلى المصادر والمراجع الموثوقة، المطبوعة والإلكترونية على السواء، وفي تعليم التلاميذ على التفكير المنهجي والنقدي ومساعدتهم كي يفهموا ذواتهم والآخرين والمجتمع والعالم ويكتشفوا ما لديهم من إمكانات ومحدوديات. ثم إنّ التلميذ إنسان قبل أي شيء آخر، وعلى المعلم ولوج هذا العالم الشخصي أيضاً وتنمية العلاقات الشخصية المسؤولة بين تلاميذه. لذلك كان التركيز على الموضوعات يؤدي الى لا-إنسانية التربية، في حين أنّ الإنسان هو غاية العملية التربوية، والمواضيع الدراسية وسائل.
من هنا نستطيع القول بأنّ طرق التربية المجدية تُقاس بالنتائج الجيدة التي تصدر عنها. فالموضوعات المختلفة التي تتيحها المدرسة، العلمية واللغوية والأدبية والتاريخية، تكون فعّالة وناجحة إذا استوعبها المتعلمون في الوقت المقرر، واستطاعوا الاستزادة انطلاقاً منها، وظل لها استعمال في المستقبل. التعليم الناجح يمتدّ إلى المستقبل ويصير جزءاً من الشخصية ويتحول إلى ثقافة. لذلك كان على المعلم أن يسأل، لدى تنظيم مادته وطرقه التعليمية، عما سوف يبقى من المادة لا بعد الامتحان فقط بل بعد عقود من الزمن ومدى العمر. لكن لا جدوى لكل الطرق التي يعتمدها المعلم أو يبتكرها إذا كان المحتوى الذي تنقله هذه الطرق سطحياً. ويمكن أن نُجمل الطرق التعليمية الناجحة بالعوامل الآتية: أن يكون هدف المعلم مساعدة الطلاب على حصول التعلم؛ أن يدرك أوضاع الطلاب العقلية والنفسية والاجتماعية؛ أن تكون الموضوعات التي يعلّمها غنيّة ومنسَّقة ومتكاملة؛ أن يَعتمد طرقاً فعّالة للتعليم، تؤدي لا إلى الحفظ بل إلى الفهم؛ أن يتحول التعليم إلى ثقافة تصير عاملاً مكوِّناً للشخصية.
لعل الفرق الرئيسي بين طرق التربية التقليدية والطرق الحديثة أنّ تلك مركَّزة على الموضوعات بما أنّ غايتها تعليم الموضوعات، فيما هذه مركَّزة على الأفراد بما أن هدفها الفرد المتعلم وتكوين شخصيته. إلا أن التربية الحديثة لا تقصد الاستغناء عن المواد التعليمية، إذ إنّ التعليم لا يقوم بلا محتوى. وكون المادّة وسيلة لا يعني البتّة أنها غير مهمة. وما تقصده التربية الحديثة ليس رفض المادة التعليمية، بل رفض طرق التعليم القديمة التي، لاعتبارها المادة غاية لا وسيلة، تركّز على التلقين والحفظ لا على الفهم. هنا يكون المتعلم منفعلاً بدلاً من أن يكون فاعلاً.
لكن كيف يمكن وصف الطريقة المثلى للتعليم المجدي الذي يؤدي إلى تحقيق الأهداف التربوية؟ ليس الجواب المختصر عن هذا السؤال بالأمر السهل. لكن لا بد من هجر طرق التعليم الآليّة التي تَعتمد الحفظ، والتذكر على الدوام أنّ تنمية شخصية المتعلم هي الهدف. وفي المقابل، لا بد من اعتماد الطرق التي من شأنها تقوية الخيال الخلاق وحَفز الإبداع عبر مجابهة المتعلم بمواقف تساعده كي يكون مكتشفاً فاعلاً، لا متلقناً منفعلاً، وأن يعرف كيف يطبّق ما يتعلمه في مواقف معينة على مواقف أخرى، فيكون العلم ذا منفعة حياتية ويتحول إلى ثقافة، أي جزء من تكوين الشخصية. ويمكن القول بأنّ طريقة التعليم المثلى تقوم على تنظيم عملية التعليم من قبَل المعلم على نحو يصل معه المتعلم الى تنظيم تعلُّمه بنفسه.
تحديث التربية يقتضي تغييراً في الطرق، وتغييراً في الدوافع، وتغييراً في المحتوى. مما يقتضيه تغيير الطرق مساعدة التلميذ على تكوين مناهج علمية نقدية يكتسب المعارف في ضوئها ويربط المواد المختلفة بعضها ببعض ضمن رابط معنوي – منطقي – غائي. كما يقتضي هذا التغيير الكفّ عن التمييز بين نشاطات "أوّلية" تحصل داخل غرفة الدراسة ونشاطات "ثانوية" تحصل خارجها، ومنها نشاطات الأندية العلمية والأدبية والثقافية والفنية والرياضية التي تتيحها بعض المدارس. فهذه النشاطات لا غنى عنها من أجل تربية متكاملة ومتوازنة. وهي تقوّي دوافع التلاميذ للإقبال على المواد التقليدية النظرية وتزيد رغبتهم في التعلم وتفسح مجالاً أكبر لنشوء علاقات اجتماعية بينهم. أما التغيير في الدوافع فيعني ألاّ يشعر التلاميذ بأن الواجبات الدراسية مفروضة عليهم، بل أن يحوّلوها إلى رغبات، فيحل النظام الذاتي مكان الهيمنة الفوقية. كما يعني تغييرُ الدوافع إضعافَ دافع المنافسة بين التلاميذ وتقويةَ دافع المشاركة. وأخيراً، التعديل في المحتوى يعني عدم الجمود في الموضوعات القديمة التي أصبحت جزءاً من التراث الثقافي والحضاري، بل إضافة موضوعات جديدة إليها، تشمل التجارب الإنسانية المستجدّة في مختلف الميادين. وقد تستعين الإدارة التربوية بالأهل والجمعيات الأهلية، وحتى بالتلاميذ، في تقرير بعض المواد.
ونختم هذه الفقرة حول طرق التعليم باستعادة ما ذكرناه ضمن مقالات السلسلة عن معنى التربية أو غائيّتها. ففي تنظيم التعليم وطرائقه، يجب التركيز على المعنى. ولعل ضحالة بعض المواد في ذهن المتعلم عائدة لا إلى المادة نفسها، بل إلى طريقة تعليمها. غير أن العلم الذي يدوم ويتحول إلى ثقافة هو ذاك الذي يجابه التلاميذ بالمعنى. وهذا يتطلب إيضاح المادة التي يدرسونها إيضاحاً حسناً وإظهار أهميتها والحاجة إليها في حياتنا. وربما أخفق بعض التلاميذ في تَعلُّم مادة كالرياضيات أو الأدب أو الكيمياء لأن معلميهم أنفسهم أخفقوا في إظهار معناها وأهميتها وفي ربْطها ببقية المواد وبالحياة العملية والثقافية. إنّ التعليم والتعلم الناجحَين هما اللذان لا يفصلان بين المواد من ناحية وقيمتها ومعناها وأهميتها من ناحية أخرى.